متابعة مستمرة لأحدث التجارب العلمية واستنتاجاتها ستُظهِر لنا أشياء لم يكن من الممكن بدأً تبنّيها كوجهة نظر فضلاً عن دراستها عن قرب، لكن فور ظهور دراسة علمية تُجلّي ذلك وتبحثه عميقاً -بشكل لا يمكن دحضه- تتدفق لعقول العلماء عشرات الأفكار التي بقيَتْ أو كانت أصلاً مستترة بالوعي الجمعي لعدم تمكنهم سابقاً من فهم الروابط التي كان بالإمكان مقاربة الأدلة بها
في خطابه الممتع بعنوان "كيف سيقوم علم الدماغ بتغيير الحوسبة؟" على مسرح Ted، يقول جيف هوكينز -أحد أبرز الأسماء العلمية في حقل علوم الحاسب والدماغ- أن المشتغلين بعلوم الدماغ يزعمون دوماً أننا لم نفهم الدماغ جيداً حتى الآن لأن آلية عمله معقدة جداً، الأمر الذي يراه هوكينز غير صحيح لأن الأشياء تبدو معقدة إلى اللحظة التي يكتشف أحدهم فيها حلاً لهذه العقدة فيظهر لنا كم كان الموضوع أقل تعقيداً مما توقعنا، الشيء الوحيد الذي تتمتع به هذه الاكتشافات هو أنها فقط ليست بديهية، وأن على أحدٍ ما أن ينظر لها للمرة الأولى بشكل مختلف عما تبدو عليه عادةً (هوكينز، ٢٠٠٣).
يوجد الكثير من الأمور التي يقوم عليها الوعي البشري ولا ندرك أنها موجودة أصلاً حتى يشير إليها شخصٌ ما، هذا لا يعني بالضرورة أنها كانت معقدة أو أنها لا تحدث أمام أعيننا، لكن يبدو أننا ببساطة كنا نفكر فيما نرى أكثر مما نرى؛ أو أننا لم نكن نرى ذلك الشيء أصلاً؛ مما يقلص فرصنا في أن نتعرف على أن هناك ما هو خارج إطار البديهة قبل أن نبدأ بالتفكير في كيفية الوصول إليه.
قد يبدو للوهلة الأولى أن هذه الفلسفة غامضة ومعقدة إلى حدٍ ما، لكن تخيل على سبيل المثال بعض المفاهيم العلمية الشائعة مثل مفهوم الجاذبية؛ أ ليس من الغريب كيف أن العلماء قبل نيوتن لم يتوصلوا لهذه الفكرة بينما لا تبدو فكرة معقدة كثيراً على طالب متوسط الفهم في المرحلة المتوسطة أو الثانوية؟
السبب خلف هذا هو لأن الأفكار الفارقة ليست أفكار بديهية -كما يرى هوكينزـ وأن نيوتن نظر لها خارج إطار البديهة الاعتيادي فأصبح تفسير سقوط الأشياء على الأرض أقل غموضاً مما اعتقد أي شخص قبل ذلك، كما أن تفسير الليل والنهار أصبح أكثر سهولة ومنطقية داخل إطار حركة الأرض والشمس وفقاً لما تفتّق عنه عقل كوبرنيكوس (هوكينز، ٢٠٠٤).
يبدو إذن أن العلماء الذين أحدثت إضافاتهم للمعرفة فارقاً ملحوظاً؛ فَطِنوا إلى الأمور التي اكتشفوها من زاوية مختلفة عما توصلت له معظم عقول الذين مروا سلفاً، ليس بالضرورة أنهم فكرواً عمداً خارج إطار البديهة، ولا بالضرورة أنهم رأوا أن الأمر بسيط جداً حين تم اكتشافه، ربما سيقت لهم المعرفة أو التجربة عرَضاً ثم نظروا من خلالها إلى الأمر بصورة مختلفة، ولكني أعتقد جازماً أن الاستسلام الواعي لتعقيدات أمرٍ ما تعيق الاحتمالات الأكثر وضوحاً لحله؛ تماماً كما تعيق البديهة الاحتمالات الأكثر غموضاً، وأن علينا دائماً وأبداً أن ننظر في الاتجاهَيْن معاً.
أمرٌ آخر أكثر إثارة للاهتمام؛ من المنطقي تماماً أن بعض المفاهيم والأفكار العلمية لا تقع خارج إطار البديهة وإنما تقع ببساطة داخله، وهذا يعني أن علينا الاحتفاظ بنزعة علمية إلى الجذور، لكن من المُلهِم أن نعرف أيضاً أن الخروج على إطار البديهة بحد ذاته قد يمنح فرصة النظر إلى ما في داخله من زاويةٍ أخرى؛ قد تكون هي بالضبط الزاوية الصحيحة التي تقدح الفكرة الجديدة، هذا لا يفضي إلى التوازن بين الاتجاهين فقط؛ ولكن يمنح العقل تعدد الأبعاد الذي تتنفس فيه العبقرية أحياناً، حينها يمكن لفكرة ثورية حقاً أن تنشأ، ليس مهماً حينها إن كان ذلك خارج أو داخل إطار البديهة
المراجع
١. هوكينز، ج. (٢٠٠٣) كيف سيقوم علم الدماغ بتغيير الحوسبة؟ تيد
يُرجَع إلى: من فضلك اضغط هنا
٢. هوكينز، ج. ، بليكسلي، س. (٢٠٠٤) في الذكاء، كيف سيقودنا الفهم الحديث للدماغ لإنتاج آلات ذكية؟ مارتين للطباعة والنشر، نيويورك.