لكن تغير الحال فأصبح هذا الجيل يرى الجامعة مكانا للتسلية مع الأصدقاء، وتمضية الوقت، ونيل الشهادة التي يفاخر بها اسما، وأصبحت الجامعة مبنى شاهقا ومختبرا لائقا ومكتبا فخما.
فتغيرت تلك الجامعات على خريجيها ومعارفها، ولبست لبوسا غريبا، وبدأت تلوك الألسنة في البوادي والحواضر ماقيمة الجامعات!
فالمفهوم المعاصر للجامعة لم يتغير منذ نشوء الجامعات في القرن الماضي، وهي صناعة الفكر وبناء الإرادة وتنمية المواهب و تلبية المهارات، والسعي في تحقيق طموحات المجتمع في الحياة الكريمة، و الذي يحتاج إلى الكثير من الجهد البشري ، والتأهيل العلمي، و رؤوس الأموال، عبر وسائل تعليمية، وبرامج تدريبية يمكنها من مسايرة الواقع واستشراف المستقبل.
وقد درس ابن خلدون المجتمع البشري، وكشف الدعائم الذي يقوم عليه أي مجتمع، فيقول : "إن الاجتماع الإنساني ضروري ؛ لأن الإنسان مدني بطبعه" ، ويقرر أن عدم كفاية الفرد بنفسه يدفعه إلى التعاون والاشتراك في دورة حياة الجامعة ، ومن ثم ينشأ التضامن وتلبية مطالب التطوير والتغيير المستمر، والذي يعد أقوى الدعائم التي يقوم عليها المجتمع، ومع ذلك يظل الفرد هو قوام أي مجتمع، وذلك (لأن الإنسان لا يستطيع أن يحصل على حاجاته إلا بالعلم والاجتماع ).
ففي أي جامعة تظهر أهمية تبادل الخبرات الإنسانية، والاستفادة من الابتكارات والمخترعات فيما بين الجامعات المختلفة، وفي هذا العصر منحت الثورة التقنية العالم خاصية القرية الكونية الصغيرة، وللأسف مع هذه الركائز العظيمة في التصور الكلي لحاجة الجامعات إلى التواصل وتبادل الخبرات وسد الفجوات الحضارية ، إلا إن بعض الجامعات كانت تعيش حالة من الصمت والذهول والتردد في المشاركة فيما يجري في المجتمع من تغييرات مفصلية، ووقفت موقف المتفرج البعيد عن الحراك الثقافي والاقتصادي والاجتماعي، ولم تتمكن من آداء المهمة المنوطة بها في تخريج أجيال متعاقبة تحمل مشعل العلم وخدمة الوطن، فأصبح الوطن الغالي بين نواتج تعلم محدودة وسوق عالمية مفتوحة لكل المهارات النافعة والمفيدة، فأصبح مطية لتيارين بين الجمود والتقليد والانفتاح والتجديد.
فأصبح الخريج الجامعي تابعا للمؤثرات في المجتمع يتأثر سلبا، ولا يؤثر إيجابا في المشهد الثقافي الصامت والحراك الاقتصادي المتقلب.
وكان لغياب المرونة والحوار المعرفي والخلط بين الاستراتيجيات أثر كبير في تحول الجامعات إلى مجتمع ساكن ، مما أشكل في توجيه النظرية المعرفية المتميزة لفئات المجتمع؛ سواء الشباب أم المرأة أم الطفل أم المجتمع المدني، أم الفئات الخاصة في المجتمع كالموهوبين وذوي الاحتياجات الخاصة والمسنين وغير ذلك.
فأصبحت بعض القضايا تبدو ظاهرا هي المحرك الرئيسي للجامعات كالحقوق الطلابية واللوائح التعليمية والمشكلات التقنية، لكن في أعماق الجامعات كانت تخبو جذور الطموح ورؤية المستقبل، مما أشير من أولي النهى إلى ضرورة دعم الدراسات الثقافية المحكمة لمعرفة ما الذي يدور في الجامعات، والإفادة من رؤية آلاف العقول النابضة بحب العلم وخدمة الوطن، واحترام السلطة الإدارية في الجامعات وضرورة تدويرها بأساليب حضارية بين الفئات العاملة في الجامعات، ومواجهة بعض الرؤوس الفارغة ، والتي أصبحت غير قادرة على التواصل الإبداعي أما بسبب تفاوت السن، أو اختلاف الدافعية، أو الانسياق نحو قضايا محددة ومكررة في المجتمع الأكاديمي المتطور.
وحقيقةً إن المستــــوى القائم في معظم الجامعات اليوم لا يواكب لغة العصر، لا في بنائه للخطط والدراسات ولا في لغته الثقافية، ولا في تنمية مهاراته، ولا في طريقة محاكاته للمجتمع ودوافعهم ونفسيتهم، لذلك فأصبحت الجامعة مساحة عابرة غير مؤثرة، وغير قادرة على تحقيق الالتصاق المطلوب بحياة المجتمع من حيث البعد العمودي "تاريخ الوطن ومكتسباته"، ولا من حيث البعد الأفقي "التأهيل لسوق العمل" ، في شمولية متوازنة وحكيمة .
ومثال على ذلك :فقد كــان من جــراء عـــــدم فهم حقيقة الوظائف المناطة بالجامعات، وعــدم الدقـــة في توضيح الأزمة بين الجامعة وسوق العمل ((مهمة جامعة المستقبل))، حيث شاعت في صفوف الكثير من الخريجين وأرباب العمل، ما يطلق عليه أزمة الثقة، رغم تباين استجاباتهم ومشاعرهم لتلك الأزمة.
فمن الخطورة شيوع هذا الاتجاه المتذبذب، وما ينجم عنه من مشكلات، فهو يقود إلى "المستوى" التقليدي الذي تقوم به مؤسساتنا في التعليم العالي لتوضيح معنى الجامعة، ومعنى المستقبل، واحتساب ردود الأفعال، دون أي استراتيجيات علمية أو دراسات ميدانية، تعيد للجامعة مكانتها في المجتمع السعودي كمحط للآمال ومصنع للأعمال.
فكان من الأولى بداية تركيز "جامعة المستقبل" على تأهيل فئات المجتمع المعرفي المختلفة للنقاش الثقافي والإسهام في البناء الفكري والتنمية المستدامة، وتوجيههم نحو التنافسية الحضارية، والمشاركة في البناء العالمي خاصة مع وجود الدعم المادي والانفتاح الاقتصادي الذي طرق جميع أبواب الجامعات، وفتح نوافذها الكبيرة والصغيرة،فيما يتعلق باللوائح والتخصصات والاستقطاب والأنشطة والتدريب والتعليم المستمر ضمن خطط متوازية وقابلة للتكيف مع المتغيرات.
فالحاجة ماسة لتأهيل التنوع في جامعة المستقبل بلغة حوارية سائلة تنساب بكل سهولة في أروقة المجتمع، وتخدم كل فئات المعرفة بحسب طموحاتها واحتياجاتها، و تعتمد على التعليم المستمر، وتبادل التجارب ،وفتح التساؤلات الحرة للوصول إلى مجتمع معرفي .
وهكذا تتمكن "جامعة المستقبل" من تحقيق الوظيفة المعرفية ، وبناء المجتمع المعرفي الراسخ القويم.