و لأنني اعتدت على مشاركة تجاربتي التي أمُرُّ بها و أجد بها بعض الفائدة ، وجدتُ أنه من الجدير مشاركة إخوتي و أخواتي من الأكاديميين و الأكاديميات "الجدد" الذين لازالوا يشقون طريقهم مثلي و لديهم رغبة في تطوير طريقتهم في التدريس و ربما في تطوير منهج مادة الإحصاء أو المواد الأخرى التي تتضمن مفاهيمًا إحصائية بشكل عام ، و سأترك في نهاية مقالي هذا روابطا مفيدة تسهم في عمليّة التطوير المأمولة.
لأن تجربتي احتوت على الكثير من الأمور التي أرغب بمشاركتها، سأجعل حديثي عن تجربتي هذه مقسما على عدة مقالات سأبدأها بهذا المقال الذي سأذكر فيه تجربتي في حضور المؤتمر الإلكتروني لتدريس الإحصاء لهذا العام eCOTS 2014: Electronic Conference on Teaching Statistics ، و الذي كان جزءا من متطلب مادة تدريس الإحصاء ، و التي كانت مادة "اختيارية" مقدّمة من قسم الإحصاء بالجامعة ، خضت تجربتها بعد موافقة قسمي و مشرفي الأكاديمي عليها لارتباطها بتخصصي الحالي و مواد تدريسي المستقبلية بإذن الله.
كان حضور المؤتمر إلزاميّا لكل الطلاب المسجلين معي في المادة، وهم طلاب من تخصصات مختلفة في العلوم الصحية (كالتمريض) و السلوكية (كعلم النفس التربوي) و الإجتماعية (كعلم الإحصاء و تأمين المخاطر) و الإدارية (كعلم الاقتصاد و الإدارة) و هي جميعها تخصصات تستخدم الطرق الحسابية و الإحصائية في موادها و أبحاثها. كانت قد طلبتْ منا أستاذة المادة حضور هذا المؤتمر بغرض التعرف على تجارب و أبحاث الأساتذة الآخرين و مناقشة في نتائجهم التي توصلوا إليها حول تجربتهم في استخدام طرق جديدة و غير تقليدية في التدريس الجامعي لمادة الإحصاء و كنا مطالبين في نهاية المؤتمر بتقديم ملخص عن أهم الأفكار التي نجدها مفيدة و تلك الأفكار الأخرى التي نخطط لتطبيقها في تطوير موادّنا التي سنصمم مناهجها مستقبلًا.
بداية رغم أن المؤتمر استمر لمدة أسبوع كامل من الساعة العاشرة صباحا و حتى الرابعة عصرا ، إلا أن قيمته كانت لاتتجاوز الخمسة و عشرين دولارا أمريكيا ، تشمل حضور جميع المحاضرات وورش العمل و عرض الملصقات العلمية كذلك، و الأجمل من ذلك أن المؤتمر لم يكن يحتاج إلى سفر أو تنقل و كل ماكان على الحضور من أي بقعة من العالم هو فتح شاشة الحاسوب أو الأجهزة المحمولة لمتابعة المؤتمر و المشاركة في الحوارات و النقاشات المنعقدة فيه بل و حتى التصويت على كثير من الأمور التي كان يطرحها مقدمو المحاضرات وورش العمل عن طريقة خاصية تسمى نظام أو آداة الاستقصاء الإلكتروني polling system.
سأركز في هذا المقال على سرد أهم النقاط التي ركز عليها المؤتمر بشكل مختصر و لمن يرغب بمعرفة المزيد من التفاصيل حول هذه النقاط المطروحة يمكنه العودة إلى المصادر المرفقة مع هذا المقال ، أو التواصل معي عبر بياناتي الموجودة على الموقع مع ملاحظة أنني سأغطي الكثير من النقاط الهامة في المقالات القادمة بإذن الله.
كان من أهم النقاط التي ركز عليها المؤتمر هي طريقة التدريس المتمركزة حول الطالب (student-centered learning (SCL) approch (students as effective learners حيث تركز هذه الطريقة على استخدام المنهج الدراسي كوسيلة لتنمية الكثير من المهارات لدى الطلاب ليست فقط تلك المهارات المرتبطة بالمادة ، بل يتجاوز ذلك إلى إكسابهم مهارات أخرى ذات صلة بحياتهم المستقبلية بعد التخرج مثل مهارة إدارة المشاريع ، إدارة الوقت ، التعاون و التواصل بين الطلاب ضمن مجموعات العمل الجماعي، بالإضافة إلى مهارات التفكير النقدي في نتائج العمليات الحسابية للمفاهيم الإحصائية. أيضا من المهم في طريقة التدريس هذه تشجيع الطلاب على المشاركة الفاعلة في العملية التعليمية بآرائهم و أفكارهم الفردية ، فدور المعلم هنا يكون كمُسهّل أو مُيسّر (facilitator) للعملية التعليمية أكثر من كونه مدرسا أو موجهّا (ملقّنا) للمنهج (instructor)، فالمعلم و كذلك المنهج الدراسي للمادة يجب أن يساعد في توجيه الطلاب ومساعدتهم حسب احتياجاتهم الأمر الذي يؤهلهم لاستخدام مهارات معينة في مواقعهم ووظائفهم المستقبلية ، و يكون المعلم هنا كعضو مشارك للطالب في الفصل الدراسي و في العملية التعليمية بحيث يتعلم كلاهما من الآخر. التدريس بهذه الطريقة يمكّن المعلم من تعديل طريقته في التدريس طوال الفصل الدراسي بما يتناسب مع احتياجات الطلاب، أي أن التقييم يكون للطالب من قبل المعلم و للمعلم أيضا من قبل الطلاب. على سبيل المثال، بدلا من تقديم المعلم لنتائج تجربة علمية أو مسألة حسابية، يتم إعطاء الطلاب وصف للتجربة المراد تطبيقها أو بيانات التجربة فقط و من ثم يتم تشجيع الطلاب على المحاولة للوصول إلى حلول بأنفسهم والخروج بنتائج ذات مغزى يتعزز من خلالها المفهوم المراد طرحه من خلال التعلم و التجربة المباشرة و ليس مجرد التلقين. فلسفة التدريس المرتبطة بهذه الطريقة التدريسية هي المدرسة البنائية (a constructivist approach) و التي تراعي مبدأ المشاركة و التجاوب مع الاحتياجات الفردية للطلاب ، و تكون بهذه الطريقة مختلفة عن الطريقة التقليدية (الوضعية) في تدريس الإحصاء (a positivist/post-positivist approach) و التي تعتمد على تلقين الطرق الحسابية للمفاهيم الإحصائية كحقائق ثابتة غير قابلة للنقاش و تعتمد على منظور المعلم وحده دون إشراك الطلاب. (ملاحظة: صورة العرض في هذا المقال هي تحليل للكلمات الأكثر استخداما في بعض النقاشات مع طلاب المادة حول طريقة التدريس المتمركزة حول الطلاب).
من النقاط الأخرى التي تم نقاشها في المؤتمر هي طريقة التدريس كخبرة بحثية research–like experiences ، من خلال هذا المفهوم يستطيع الطلاب استخدام البيانات الإحصائية و دراستها بطريقة تشابه طريقة إجراء بحث مصغر بحيث يصمم منهج مادة الإحصاء كاملا و كأنه خبرة بحثية بحيث يقسم المنهج كالتالي: فرضيات بحثية ، جمع بيانات مناسبة لاختبار هذه الفرضيات ، ثم التحليل للتأكد من صحة الفرضيات ، و من ثم مناقشة النتائج ، و أخيرا يتم عرض نتائج هذه الأبحاث في مؤتمرات مصغرة تنعقد خصيصا للطلاب لعرض أعمالهم فيها كملصقات علمية و يتم من خلالها تنمية مهارات العرض التقديمي لديهم ، و مايقدم هنا للطلاب من مفاهيم و تحليلات و برامج تحليل إحصائية يكون أيضا حسب احتياجهم في أبحاثهم التي يقومون بها سواء كانت أبحاث افتراضية يختار الطلاب موضوعاتها للعمل عليها كمتطلب لهذه المادة فقط أو تكون أبحاث حقيقية قام الطلاب بجمع بياناتها مسبقا لمواد أخرى لغرض النشر العلمي.
مما تم مناقشته أيضا التركيز على طرح بيانات حقيقية و ليس مجرد أمثلة افتراضية real-world examples/data ويندرج تحت ذلك تصميم المنهج الدراسي بالتركيز على الجانب التطبيقي (الواقعي) للمفاهيم الإحصائية فمثلا يستطيع الطلاب من خلال مواقع إلكترونية معينة الحصول على بيانات حقيقية تم جمعها من قبل باحثين أو منظمات إحصائية معينة و يقومون بتحليلها بطريقة أقرب للواقع، و الغرض من ذلك هو تعويد الطلاب على قراءة البيانات المستخدمة في الحياة اليومية كتلك الإحصاءات المنشورة في الصحف اليومية و المجلات الأكاديمية على أن تتم قراءتها قراءة نقدية لاتسمح لهم بقبول نتائج الأبحاث كماهي و إنما التركيز على التحقق من صحتها إما كمستهلكين لتلك المعلومات (consumers) أو كباحثين و محللين لتلك المعلومات (statisticians/researchers) حسب الأهداف التعلمية learning objectives للمادة.
من الجدير بالذكر أنه تم التطرق للكثير من النقاط حول استخدام التكنولوجيا ، الأغاني، و الألعاب الإلكترونية technology, songs, and games كوسائل مساندة في شرح المفاهيم الإحصائية و هنالك مواقع تعليمية كثيرة قام فيها الأساتذة المشاركون في المؤتمر بتصميم ألعاب مخصصة لشرح المفاهيم الإحصائية التي يقومون بتدريسها و رحبوا باستخدامها و مشاركتها مع أي معلم يرغب في تطبيقها و كل ماعليه هو التواصل معهم أو زيارة موقعهم، هذا فضلا عن أنه تم التطرق للكثير من برامج التحليل الإحصائية ، والتي أصبح من الضروري تعليمها للطلاب حيث أنها تساعد في فهم الطلاب للكثير من المفاهيم الإحصائية خاصة فيما يحتوي منها على رسوم بيانية متحركة يتم التعديل عليها حسب البيانات المضافة أو المحذوفة كتغيير عدد العيّنة المستخدمة أو تغيير القيمة الاحتمالية (p-value)بحيث يرى الطلاب التغييرات التي تحدث في الرسوم البيانية للنتائج الإحصائية بشكل عملي و مباشر.
و أخيرا
كان الأهم بالنسبة لي من تجربة حضور هذا المؤتمر هو بارقة الأمل التي خرجت بها في إمكانية حضور و مشاركة تجاربي في مؤتمرات "إلكترونية" لتطوير مهاراتي التدريسية المستقبلية في حال لم تسنح لي الفرصة للسفر لحضور مؤتمرات خارج المملكة بعد عودتي من الإبتعاث و أيضا برسوم رمزية ، أمنيتي الأكبر هو أن تتاح الفرصة لترجمة فورية باللغة العربية للكثير من هذه المؤتمرات و ترجمة مواد المواقع التعلمية و المناهج المتقدمة لتسنح لي الفرصة لإشراك طالباتي و زميلاتي الأكاديميات و إطلاعهم على كل ماهو جديد في مجال الإحصاء و مواد التخصص بشكل خاص و في تطوير التعليم الجامعي بشكل عام.
*موقع المؤتمر (توجد به الكثير من المحاضرات المسجّلة)
https://www.causeweb.org/ecots/
*كتاب مفيد حول تدريس الإحصاء
http://link.springer.com/book/10.1007%2F978-1-4020-8383-9