عامة الناس ينظرون إليك عادةً في ضوء بعض المحدِّدات التي يتعارفون على استخدامها، المحدد الاجتماعي، المحدد المعرفي، المحدد الشخصي، و المحدد الحدسي، و غيرها.
من الناحية الدينية فإن الناس عادةً تميل إلى استخدام المحدِّد الثقافي الاجتماعي، يتعارف العامة فيما بينهم -ضِمناً- على النظر إلى الدين باعتباره ظاهرة اجتماعية تصدّرها مجموعة من الناس تتسامى باتجاهها الديني إلى هدف روحي عبر اتحاد العقل الجمعي على الإيمان بذات المُلهِم - إلهاً أو بشراً أو حيواناً أو غير ذلك-.
و لأنني أمثل الناحية الشخصية في موقفي هنا؛ فنظرات الطلاب الأمريكيين لي -و أنا في داخل القاعة- بين فكرة إسلامية وأخرى مثلتْ تساؤلاتهم الصامتة عن مدى فكر ما يسمعون، تقابل عيناي ذلك كله بشرودٍ بارد لا أبحث معه عن إجابات، لأن أسئلتي ملأت أروقتي الداخلية بذات الحيرة من قبل!
إشكالية الكثير من الطلاب المسلمين هنا في أمريكا -أو في دول أخرى غير إسلامية- هي سلسلة من الانفصالات المعرفية على مراحل؛ وقفت كلها عائقاً بين الإسلام و مستلزماته -على الأقل من الناحية الفكرية لتعاطينا كمسلمين مع الواقع-، أحد هذه المستلزمات هي التوازن المعرفي بين الإسلام و تطبيقاته في العصر الحديث، أما الانفصال المعرفي بين الفلسفة و الإسلام فهو جزء أساسي من هذا حصل منذ قرون و ما زال يحدث و سيبقى مُحدَثاً بقدر ما يحظى الإسلام نفسه برعاية مذهبية محتدة و علماء دين يغارون على تطبيق الدين وانتشاره أكثر مما يغارون على فلسفته ومنطقه أولاً وعلى سماحته ثانياً.
بعض الطلاب المسلمين هنا تراودهم فكرة مشتركة عن الحظوة بإسلام أحدٍ ما على يديهم، و هي حماسة محمودة لولا العائق المعرفي الكبير في إرساء نظام فكري إسلامي من خلال هشاشة الوسيط الناقل إلى نظام فكري مختلف كلياً يتمثل في الآخر.
بعض الذين سبق لي الحديث معهم هنا حول بعض قضايا الفكر الديني والاجتماعي بدا لي أن لهم تحفظات ليس على الإسلام وحده لكن على مفهوم الدين بشكل عام، في هذه الحالة يحتاج الطرف المقابل شخصاً بحاجة هو الآخر إلى استحضارٍ عميقٍ للدين كفلسفة فكرية ناجزة فكراً وسلوكاً، ثم استحضار الإسلام كآخر نسخة تطبيقية محدثة وصالحة للاستهلاك الأبدي.
واحدة من أكثر الإشكاليات التي تواجه الديني في دعوته لغير الدينيين -في تصوري- هي قناعتهم بأن المنتَج الديني (بما فيه المنتج الإسلامي) لا يفوق منتجهم بشيء.
إذا استطعت تخيل كونك لا مؤمناً قادماً من كوكبٍ مجاور لم تسمع عن كوكبنا أبداً، ثم قُدِّم إليك عرض كامل للأديان البشرية منذ بدأ التاريخ و حتى الآن، هل ستقول بأن شواهد الواقع المعاصر تخبرك بأهمية المنتج الديني فكراً و سلوكاً؟ أم ستقول بأن المنتج اللا ديني له نفس الأهمية تماماً، مما يعني بأن اللادينية هي النتيجة الطبيعية لتفوّق تعقيدات الواقع الحديث على كفاءة نظام الفكر الديني (الإسلام خصوصاً)؟
ببساطة؛ هل تستطيع تطبيقات الواقع الإسلامي المنتجة حالياً -وليست التطبيقات التي يستطيع الإسلام نفسه توفيرها- أن تخدم تعقّد الحياة اليومية فكراً وسلوكاً؟
إذا كانت الإجابة نعم، فلماذا يبدو الدينيون عموماً والمسلمون خصوصاً من الناحية الدينية سلوكاً وفكراً متأخرين عن السلوك العلمي الذي يبدو أنه يتقدم بدون الحاجة إلى دين؟
لماذا لا يُنتِج الواقع الإسلامي معرفة كافية لوضع المسلم في صدارة العالم الآن، هل هناك عوائق سياسية، أو معرفية، أو اجتماعية، أو فكرية؟
أياً كان العائق؛ لماذا إذن لا يتغلب عليه آخر الأديان السماوية بفضل عظمته المذكورة على ألسنة من خذلوه؟
هل لأن المسلمين أنفسهم وقفوا عائقاً أمامه قبل أن يبدأ أحدٌ غيرهم بمواجهتهم؟
إذن لماذا لا يملك الإسلام ميزة المقاومة لأي عائق؟
إذا كان هذا نتيجة للصراع الطبيعي بين الخير و الشر فهل تبدو المعرفة البشرية التي ساهمت في صناعة وسائل النقل و وسائل البناء و وسائل التعليم و وسائل الصحة و وسائل الإعلام و غيرها شرّاً؟ لأن من الواضح أنها ليست منتجاً دينياً، فقد تطورت المعرفة بفعل نفسها دون وجود توليفة -من أي درجة- بينها و بين الدين .
مشكلتنا كطلاب مسلمين حين الدعوة إلى الإسلام في بلاد العالم الأول أننا نواجه عائقَيْن أساسيَّيْن:
١. العائق الفلسفي؛ يتمثل في موازنة الديني مع اللاديني و صلاحية منتجهما الفكري و السلوكي، فإذا لم نستطع أن نثبت فعالية المنتج الديني وتفوقه فقد فشلنا في إقناع الآخر بمزالق النزوح إلى اللادينية، لم يعد يجدي اليوم الحديث عن المنافسة الأخلاقية، فكثير من اللادينيين يملك من الأخلاق ما يمثّل به نفسه دون الحاجة إلى دين، و هو ما يعادل المعامل الأخلاقي في أي دين آخر تقريباً، لأن المحاكي المناسب لإثبات ذلك هو المعامل المعرفي وليس المعامل الأخلاقي.
٢. العائق الثقافي الاجتماعي؛ يتمثل في القالب الذي يشكل صورة هذا الدين عند الآخر، في حالتنا فنحن جزء من القالب الرئيسي وهو المجتمع الديني، و كثيراً ما تبدأ جهودنا من داخل القالب نفسه حتى لو كنا من الناحية الميدانية خارجه، مما يضعنا أحياناً في مطب العائق الفلسفي في النقطة الأولى، لأننا ببساطة لا نملك مشروعاً فلسفياً ناجزاً لإرساء الفكر الإسلامي بكافة تعقيداته ومواجهاته الفكرية مع الأديان والمذاهب الفكرية الأخرى التي حدثت أو ستحدث.
في الوقت الراهن؛ الدعوة إلى الإسلام مسؤولية فكرية تتطلب العودة إلى القالب نفسه و كسره أولاً، و المصالحة الفكرية بعد ذلك بين الفلسفة والدين، ثم الانطلاق من جديد لمواءمة الإسلام مع تطبيقات الواقع الحديث، إنه فكر مستوعِب وسلوك محقِّق، ليس كتيباً وشريطاً وبضعة آيات نحاول جهدنا في أن نثبت بها إعجاز الله العلمي في كتابه.
أصول إسلامية بأيدٍ أمريكية
أن تكون جزأً من حصيلة خاطئة؛ يعني أن مهمتك الخروج سريعاً قبل أن يستشهَد بوجودك فيها.
ستصبح هذه العبارة أوضح إذا كان أحدكم مثلي يدرس مادة "أصول إسلامية" في جامعة أمريكية جميع طلابها -باستثناء واحد- يتقدمون بفهمهم للإسلام عن عامة الأمريكان فقط بقدر ما يخبرهم به بروفسور المادة؛ لا بقدر ما يمكن أن تبدأ كمسلم -في قلب المنهج الديني ذاته- بإخبارهم به.

سعد علي الغامدي
أكاديمي مبتعث إلى الولايات المتحدة الأمريكية لدراسة علم النفس العصبي المعرفي، مهتم بعلوم الدماغ والأعصاب والنفس بشكل خاص و له اهتمامات عامة بالفكر و الفلسفة و التاريخ و الأدب، عضو هيئة تدريس بجامعة الملك سعود، قسم علم النفس.
-
العنوان:8900 SW Sweek Dr
-
المدينة:Tualatin
-
المنطقة:OREGON
-
الرمز البريدي:97062
-
البلد:United States
مواد أخرى من سعد علي الغامدي
رأيك في الموضوع
تأكد من ادخال المعلومات في المناطق المشار إليها ب(*) . علامات HTML غير مسموحة